التصنيفات
الحياة

قوقعة الشاشة السوداء

إضاءة : هل يمكنك أن تتخيل وجودك في مكان ما من دون هاتفك الجوال؟

حين أكتب أو اقرأ أو حتى حين أحادث أحدهم في مجلس ما لا أحبذ أن يكون الهاتف أمامي حيث ينتابني شعور التشتيت من تلك الشاشة السوداء. 

أشعر مؤخراً بوجود مسافة بيني وبين أي شخص أقابله أو أجلس معه، وكأنه يحيط ذاته بهاله مغلفة من المكالمات والرسائل النصية ناهيك عن تنبيهات التواصل الأجتماعي والعالم الخارجي. الجميع يعيش في قوقعه الشاشة السوداء مما يخلق تلك المسافة بينه وبين الآخرين حتى وأن تواجدوا في نفس المكان. أشعر أن هنالك مسافة تفصلنا وذلك لأن الشخص الذي أمامنا يكون مرتبط بهذه الشاشة السوداء أكثر من أرتباطه بالموجودين. لذا نلاحظه مهما أنغمس في أحاديث مع الموجودين يبقى هنالك جزء منه خارج هذا العالم والمكان، أمر كهذا لم يكن يحدث سابقاً إلا مع المصابين بالشرود الذهني. قبل الطفرة التكنولوجيا كنا نجد الجميع حاضراً بجسده وعقله وجميع حواسه في الاجتماعات العائلية و المناسبات الاجتماعية، يشارك الجميع في الأحاديث والمناقشات ليكون بحضوره جزءاً من الجلسة، أما بوجود هذه الهواتف نجد لكل شخص لحظات شرود مختلفة فهو لا يستمع لك لأكثر من ١٠ ثواني و أن أكمل دقيقة تركيز معك فأنت إما أن تكون شخصية مثيرة للإهتمام أو أنه يحتاج منك مصلحة ما. 

فأنا حين أحدث أخي أو أختي وهم يعتبرون الأشخاص الأكثر قرباً لي، أجد نفسي بين خيارين إما أن أتوقف بين دقيقة والثانية نظراً لكثرة التنبيهات التي تردهم أو أن استمر في الحديث بالرغم من أن الشخص الذي أمامي قد لا يستمع لربع أو نصف الحديث الذي ذكرته. ولكن ماهو الناتج الذي ممكن أن نتوقعه بعد مرور أكثر من خمسة أو عشرة أعوام على نمط الحياة هذا. ببساطة أستطيع أن أتنباء أن الحديث بين الأشخاص سيتوقف. لن تجد شخص يستمع إليك خارج إطار الحاجة لذا ستنوئ بذاتك لتكتشف أنه قد يمر عليك يوم كامل دون أن تتمكن من اخبار أحد بأخر مستجدات يومك. قد تحتاج الى أن تخبره في رسالة نصية أو عبر أي من وسائل التواصل الاجتماعي ولكن لن تجده حاضراً في نفس ذات اللحظة لتتصل عليه هاتفياً أو لتلتقى به وتخبره بمستجدات يومك. ستصبح الأحاديث المسموعة أمر خارج الموضة. ستبدو اللقاءات الاجتماعية أمر قديم لن نلتقى إلا في مكان يوفر لك أجواء تسمح بالتصوير وتقديم ما هو جديد. مكان يسمح لك بأستخدام هذا الهاتف أكثر من لحظات جلوسك و أستماعك للشخص الذي أمامك. 

أن هذا الأمر قد يؤدي بنا لفقدان القدرة على الحديث على ربط الأحداث، فنعمة الكلام هي نعمة تساعدك على تشغيل خلايا المخ وربط المواضيع بعضها ببعض للتمكن من الخروج بجملة مفيدة. هذه الممارسة أن قل مستواها على مدار الأعوام القادمة سنجد أنتشار أكبر للأمراض التي تصيب الجهاز العصبي بالخمول والتخدر مما يتلقاه دون القدرة على التفاعل. 

كم منا قد أخجل أمه أو أبيه بالرد على رسالة أو الإطلاع على تنبيه ما بينما من تعبوا في التربية يتحدث عن موضوع قد يبدو لك غير مهم ولكنه مهم في نظرهم ويحتاجوا الى استماعك وحضورك الجسدي والذهني الكامل. أن الزيارات العائلية التى تقوم بها بين الحين و الآخر وأنت محمل بكم هائل من المسجات التى تود الرد عليها في حضورهم هي زيارات خواء ، لا قيمة لها إلا أن تشعرهم بصغر حجمهم وقلة أهتمامك بهم. 

أنني أنقل لكم تجربة عشتها في عالم النساء ، ولا أستطيع أن أعممها على عالم الرجال ولكني أستطيع أن أقول أن الرجال قد يكونوا أوفر حظاً منا فهم لا زالوا يتجهون للاتصالات واللقاءات أكثر من النساء اللاتي ستجد القليل منهن لازل لديها هاتف يرن وترد عليه. أصبح رنين الهاتف مرتبط بشخص أو شخصين في اليوم الواحد. فهن أصبحنا يستخدمن الرسائل الصوتية بدل المكالمات و الصور التفاعلية بدل اللقاءات. وحتى أن كن متواجدات في نفس المقهي ونفس الطاولة ستجدهن طول الوقت يستعرضن أمور موجودة على تلك الشاشات السوداء. وأنني لأراهن أن أحداهن لا يمكنها أن تكمل زيارة أو كوب قهوة دون التأكد من أن هاتفها المحمول يعمل وبطاريته في صحة جيدة.

يقول تشارلز بوكوفسكي
: الهاتف صنع للحالات الطارئة فحسب .. هؤلاء البشر ليسوا حالات طارئة، إنّهم كوارث.



اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.